" بـرّ الأمّ "

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه شهادة منُزّهة عن الشكِّ والشبهات،  وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله وصفيّه وحبيبه صلّى الله عليه وعلى كلّ رسول أرسله .

 

أمّا بعد عباد الله فإنّي أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ العظيم القائل في كتابه الكريم :

 

 وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا                          الآية /سورة الإسراء / الآية 23

 

وها هو أفضل الخلق سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم قد سئل : أيّ العمل أفضل ؟ أي بعد الإيمان بالله والرسول فقال : الصلاة في وقتها، قال السائل : ثمّ أيّ ؟ قال: برّك لوالديك .

 

إخوة الإيمان ، إنّ فضل برِّ الوالدين عند الله عظيم ، ولذلك قال الله تعالى: {وبالوالدين إحسانًا} الآية .

 

ثمّ إنّ برّ الأمّ أعظم ثوابًا من برّ الأب كما أنّ عقوق الأمّ أشدّ إثْمًا من عقوق الأب، والعقوق هو إيذاء أحدهما أذًى غير هيّن كضرب أحدهما أو كشتم أحدهما . فمن هنا نجد أنّه لا بدّ لنا من أن نبيّن بعض ما ورد في أمر برّ الأمّ. ففي الحديث أنّ صحابيًّا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم : من أحقّ الناس بحسن صحابتي ؟ فقـال لـه الرسول: أمّك . قال : ثمّ من ؟ قال : أمّك. قال : ثمّ من ؟ قال:  أمّك. قال: ثمّ من ؟ قال: أبوك.

 

ففي برِّهما خير عظيم، ولكن يفهم من هذا الحديث وغيره أنّ فضل برِّ الأمِّ عند الله أعظم من برِّ الأب. فالأمّ هي التي حملت ولدها في بطنها تلك الشهور، والأمّ هي التي تألّمت عند الولادة تلك الآلام، والأمّ هي التي أرضعت ولدها الليل والنهار، والأمّ هي التي رعت في بيتها أسرتها فأوْلتها العناية وأعطتها الاهتمام لتخرج إلى المجتمع قادةً وسادة وأمراء ووزراء وعلماء وأمّهات وزوجات، فالأمّ قد قيل فيها:

 

الأمّ مدرسـة إذا أعددتَهـا        أعددت شعبًا طيِّب الأعراقِ

 

فالأمّ أولى بالبرِّ من سائر الناس فهي أعظم الناس حقًّا على الرجل. وفي حكم الرجل المرأة غير ذات الزوج فهي والرجل في هذا سواء . وقد ورد في الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أعظم الناس حقّا على المرأة زوجها وأعظم الناس حقّا على الرجل أمّه" . فهذا الحديث فيه بيان أعظميّة حقّ الرجل على المرأة على حقّ غيره، وفيه أيضًا بيان عظم حقّ الأمِّ على الرجل.

 

إخوة الإيمان ، ها نصيحة من القلب لكل من أراد رضا الله وطلب الفوز بالمراتب العليا الزم طاعة الله وكن حريصًا على تحصيل الثواب في صحيفة عملك وتمسّك بهدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو الذي أوصانا بوصايا، ومن جملة ما أوصى به برِّ الأم تلك الخصلة العظيمة . وقد حاء عن بعض الصحابة أنه من شدّة حرصه على ذلك كان لا يأكل في قصعة أي في صحن واحد مع أمّه وذلك حتى لا يأكل شيئًا لعلّ عين أمّه وقعت عليه. فانظروا رحمكم الله إلى هذا الأدب المحمّديّ، خصال خير إذا ما تمسكنا بها ازدادت البركات فيها بيننا.

 

إخوة الإيمان، وهاكم قصّة توضح لنا هذه المعاني الطيبة نتلمّس منها فضل برِّ الأمِّ وما في ذلك من بركة تعود على الأبناء . فلقد ذُكر أنّ رجلاً مسرفًا على نفسه يلهو ويعبث ويفعل ما حرّم الله كان له أمّ صالحة تأمره بترك ذلك وتنصحه بسلوك طريق التوبة وهو لا يلتفت لنصحها إلى أن مرض مرضًا أضجعه، وهو على فراش الموت قال لأمّه: يا أمّاه إذا أنا متّ فاتبعيني إلى قبري فإذا وضعوني فيه انزلي أنت أيضًا فيه ثم ضعي قدمك على رقبتي وقولي يا ربّ إني قد رضيت عنه فارضى اللهمّ عنه. فلمّا توفّي لم تجد من يقوم معها بتهيئة الجنازة فغسّلته وكفّنته ثمّ استأجرت أربعة رجال للصلاة عليه ودفنه ثمّ خرجت الجنازة من البيت ولم يخرج معها إلا الأربعة الذين استأجرتهم وهذه الأمّ الحزينة على ولدها. فرأى الجنازة عالم من العلماء استغرب أمرها فلحق بها ليعرف من هذا الذي لم يهتمّ بجنازته إلا القليل وخلفه امرأة فإذا به يلمح الأمّ قد نزلت في القبر كما أوصى ولدها ووضعت قدمها على رقبته وقالت: اللهمّ إني قد رضيت عنه فارضى اللهمّ عنه. ثم انصرفت وبقي العالم عند القبر فسمع صوتًا من القبر يقول: إن الله قد رضي عنه برضائك عنه.

 

هذا وأستغفر الله لي ولكم

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:  التحذير من عبارة الخالق الناطق

 

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له.

 

أما بعد عباد الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ القدير القائل في محكم التنْزيل : مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ

 

 سورة ق الآية 18

 

واعلموا أيّها الأحبّة أنّه ممّا يجب تحذير الناس منه قول بعضهم إذا رأوا سخصًا يشبه ءاخر " الخالق الناطق " فإنّ هذه الكلمة فسادها ظاهر من وجهين ، أولاً المخلوق لا يوصف بأنّه خالق ، ثانيًا أنّ الخالق وهو الله لا يوصف بأنّه ناطق لأنّ الناطق هو الذي يتكلّم بالحرف والصوت .

 

فوصف العبد بأنه خالق كفر ووصف الله بأنّه ناطق كفر. وأمّا من كان لا يفهم من هذه العبارة إلا أنّ فلانًا يشبه فلانًا فلا يكفر ولكن يجب نهيه عن هذه العبارة . وأمّا لو قالوا سبحان الله الذي خلقه فأنطقه لكان المعنى صحيحًا .

 

اللهمّ ثبّتنا على القول الحقِّ يا ربّ العالمين .

 

واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ  ]إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا[ اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدَنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ  على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ]يا أيها الناس اتقـوا ربكـم إنّ زلزلة الساعة شىء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد[، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنّا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون .اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.