الجنائز فيها عبر وتذكير - الشيخ الدكتور سليم علوان الأمين العام لدار الفتوى في أستراليا
اعْلَمْ أنَّ الْجَنَائِزَ فيها عِبْرَةٌ للبَصيرِ وَتَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ، فَكُنْ مِنْ أهْلِ الاعْتِبَارِ وَلا تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْغفْلَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْغَفْلَةِ مِنْ شَأنِهِمْ أَنَّهُمْ لا يَعْتَبِرُونَ بِمَا يَرَوْنَ وَلا يَتَفَكَّرُونَ أَنَّهُمْ إِنْ حَمَلُوا الْجَنَائِزَ فَغَدًا سَيُحْمَلُونَ، وَأَنَّ الْمَرْءَ مَهْمَا مَلَكَ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ فَتَرَى قَصْرَهُ ثُمَّ قَبْرَهُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ سَيِدَنَا عُمَرَ بْنَ عَبْدَ العزيزِ رَضي الله عَنْهُ كَانَ يَمْشي في جِنَازَةٍ فَرأى أُنَاسًا يَتَوَقَّوْنَ حَرَّ الشَّمْسِ وَيَهْرُبُونَ مِنْ غُبَارِ الطَّرِيقِ كي تَبْقَى بِشَاشَتُهُمْ فَبَكَى وَقالَ:
مَنْ كَانَ حَينَ تُصيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ أَوِ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثا
يَأوي إلى الظِّلِّ كَيْ تَبْقَى بَشَـاشَتُهُ فَسَوْفَ يَدْخُلُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا
في ظِـلِّ مُقْفِـرَةٍ غَبْـرَاءَ مُـظْلِمَةٍ يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَى في غَمِّهَا اللَّبَثَا
والشَّيْنُ ضِدُّ الزَّيْنِ، وَالأَشْعَثُ هُوَ مُغْبَرُّ الرَّأسِ، والْجَدَثُ الْقَبْرُ، والثَّرَى التُّرَاب .واللبث المكث.
فَإِذَا نَظَرَ الإنْسَانُ إِلى جِنَازَةٍ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ مَحْمُولا عَلَيْهَا وَلْيُسَارِع إلى التَّوْبَةِ وَقِصَرِ الأَمَلِ بِطُولِ الْعَيْشِ فَإِنَّهُ لا بُدَّ سَيُحْمَلُ على الْقُرْبِ.
قَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ رَضيَ اللهُ عنهُ: "كُنَّا نَشْهَدُ الْجَنَائِزَ فلا تَرى إِلا مُقْتَنِعًا بَاكيًا" اهـ. وَذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ اعْتِبَارِهِمِ وَتَذَكُّرِهِمْ أَنَّهُمْ عَنْ قُرْبٍ سَيَرْحَلُونَ، وَهَكَذَا كَانَ خَوْفُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَمَّا الآنَ فَلا تَكَادُ تَنْظُرُ إلى جَمَاعَةٍ يَحْضُرُونَ جِنَازَةً إِلا وَأَكْثَرُهُمْ يَضْحَكُونَ وَيَلْهَوْنَ وَيَتَكَلَّمُونَ في ميرَاثِهِ وَأَحْيانًا يَقَعُونَ في غِيبَتِهِ وَسَبَبُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ قَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَالَّذي يُؤَدِّي إِلى قَسُوَةِ الْقَلْبِ هُوَ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ والْوُقُوعُ في الْمَعَاصِي نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا مِنَ الْغَفْلَةِ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال: "لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ" وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عليه وسلم قَال: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ مَالٍ حَلالٍ مُخْلِصًا للهِ وَلَوْ كَانَتْ صَدَقَتُهُ بَعْضَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ يُعْتِقُهُ اللهُ مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفي صَحيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ عَطَسَ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ شَمَّتّ هَذَا وَلَمْ تُشَمِّتْني، فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللهَ وَلَمْ تَحْمَدِ اللهَ". وَالرَّجُلانِ هُمَا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَابْنُ أَخيهِ، وَالَّذِي حَمِدَ اللهَ هُوَ ابْنُ الأَخِ، وَقَوْلُهُ "فَشَمَّتّ" أَيْ قُلْتَ يَرْحَمُكَ الله، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ الدُّعَاءُ لَهُ وَكُلُّ دَاعٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ مُشَمِّتٌ، وَقَوْلُهُ "وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ" أَيْ لَمْ يَدْعُ لَهُ، وَقَوْلُهُ "فَقَالَ الرَّجُلُ" هُوَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبي مُوسى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتُوهُ وَإِذَا لَمْ يَحْمَدِ اللهَ فَلا تُشَمِّتُوهُ"، قَالَ الْفُقَهَاءُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَضَرَ الْعَاطِسَ الَّذي لَمْ يَحْمِدِ الله أَنْ يُذَكِّرَهُ الْحَمْدَ لِيَحْمَدِ اللهَ تعالى فَيُشَمِّتَهُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في فَتْحِ الْبَاري أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبي دَاودَ صَاحِبِ السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ في سَفِينَةٍ فَسَمِعَ عَاطِسًا عَلَى الشَّطِّ حَمِدَ اللهَ تَعالى فَاكْتَرَى (أَيِ اسْتَأجَرَ) زَوْرَقًا بِدِرْهَمٍ حَتَّى جَاءَ إلى الْعَاطِسِ فَشَمَّتَهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَعَلَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا رَقَدُوا سَمِعُوا قَائِلاً يَقُولُ: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ إِنَّ أَبا دَاودَ اشْتَرَى الْجَنَّةَ مِنَ اللهِ تعالى بِدِرْهَمٍ. اهـ.