300 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

Articles

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا ضد ولا ندّ له، أنزل على قلب عبده وحبيبه محمّد قرءانا عربيًا من تمسّك بهديه فاز فوزًا عظيمًا. فلقد قال ربّناعزّ وجلّ:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} سورة الإسراء/23 .

وأشهد أنّ سيّدَنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمّدًا عبدُ الله ورسولُه وصفيّه وحبيبه بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة، فهو القائل في حديثه الشريف:" إنَّ مِنْ أبرِّ البِرِّ أن يَبَرَّ الرجلُ أهلَ وِدِّ أبيه بعدَ أن يُوَلِّي" (أي بعد أن يموت). فجزاكَ اللهُ عنا يا سيّدي يا رسولَ الله خيرًا، جزاكَ اللهُ عنا خيرَ ما جَزَى نبيًّا من أنبيائِه، الصلاةُ والسلامُ عليكَ يا سيِّدي يا محمّد، الصلاةُ والسلام عليك يا سيّدي يا معلّمَ الخير، الصلاةُ والسلامُ عليكَ يا علَمَ الهدى ويا بدرَ الدُّجَى يا محمّد.

أما بعدُ أيها الأحبّةُ المسلمون، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ العظيم، فالتقوى هي سبيلُ النجاةِ يومَ الدِّين، هي التي تنفَعُ يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنُون إلا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم.

إخوةَ الإيمان، لقد جاءَ الأنبياءُ بالهُدى والبيِّنَات ودَعَوْا إلى المكارمِ والمعالي وأعمالِ الخير، فَمِنَ المكارمِ والمعالي التي جاءَ بها أنبياءُ اللهِ عزَّ وجلَّ بِرُّ الوالدَين. يقولُ اللهُ تعالى:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. الإسراء 23-24

إخوةَ الإيمان، أمرَ اللهُ عبادَه أمرًا مقطوعًا به بأنْ لا يعبُدُوا إلاّ إيَّاه وأمرَ بالإحسانِ للوالدين، والإحسانُ هو البِرُّ والإكرام. قال ابنُ عباس:"لا تنفض ثوبَكَ فيصيبهما الغبار".

وقد نهى اللهُ تعالى عبادَه في هذه الآية عن قولِ { أُفٍّ } للوالدَين، وهو صوتٌ يدلُّ على التَّضَجُّر، فالعبدُ مأمورٌ بأنْ يستعمِلَ معَهُما لِينَ الخُلُقِ حتى لا يقول لهما إذا أضجَرَهُ شىءٌ منهُمَا { أُفٍّ } ، كلمةُ { أُفٍّ } نهاكَ اللهُ عن قولها لوالديك.

{ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } أي ولا تنهاهُما عن شىءٍ أحبّاه لا معصيةَ للهِ فيه، وقُل لهما قولاً ليِّنًا لطِيفًا أحسن ما تجد، كما يَقْتَضِيهِ حسنُ الأدب.

واسمَعُوا جَيِّدًا قولَ اللهِ تعالى:{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي ألِن لهما جانِبَكَ مُتذلِّلاً لهما مِنْ فَرْطِ رَحمتِك إياهما وعَطفِكَ عليهِما. كُن ليِّنَ الجانبِ متذلِّلاً لوالدَيك، وتذكّر أنكَ بالأمسِ في صِغَرِكَ كنتَ أفقرَ خلقِ اللهِ إليهما، مَنِ الذي أزالَ عنكَ النجاسةَ في صِغَرِك؟ منِ الذي سهرَ الليالي لأجلِ صِحَّتِك؟ فَبِرّ الأمّهاتِ أعظمُ ثوابًا من برِّ الآباءِ لعَظيمِ فضلِ الأمّ وما تحمّلَتْهُ وقدّمَتْهُ لولدها في سبيل تربيتِه. رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَمّا سألَه بعضُ الصحابةِ: "مَنْ أحقُّ الناسِ بحُسْنِ صحابتي ؟ قال: أمُّك. قال: ثمّ مَن ؟ قال: أمُّك. قال: ثم مَن ؟ قال: أمُّك. قال ثم من ؟ قال: أبوك" .

لقد حضّ الإسلامُ الولدَ على طاعةِ الوالدَيْن فيما لا معصيةَ فيه، وجعلَ اللهُ تعالى للمسلمِ الذي يطيعُ والدَيه فيما لا معصيةَ فيه أجرًا عظيمًا في الآخرة، بل منَ الناسِ مَن أكرمهم اللهُ بأشياء في دنياهم قبل ءاخرتهم بسبب بِرِّهم لأمّهم كبلال الخواص رضي الله عنه الذي كان من الصالحين المشهورين قال:" كنتُ في تِيْهِ بني إسرائيلَ فوجدتُ رَجُلاً يماشيني فأُلْهمتُ أنه الخضر (والخضرُ إخوة الإيمان هو نبيٌّ على القولِ الراجحِ ولا زال حيًا إلى الآن بقدرة الله تعالى) قال بلال الخواص رضي الله عنه: فسألتُه عن مالِك بنِ أنس فقال هو إمامُ الأئمةِ ثم سألتُه عن الشافعيِّ فقالَ هو منَ الأوتادِ ثم سألتُه عن أحمدَ بنِ حنبل فقال هو صِدِّيق. ثم قال له: أسألُكَ بحقِّ الحقِّ مَن أنت؟ فقال أنا الخضر. قال: فقلتُ له: ما هي الوسيلةُ التي رأيتُك بها؟ قال: بِرُّك بأمّك". أي الفضيلةُ التي جعلتْكَ أهلاً لرؤيتي هي كونُك بارًا بأمِّك.

وتذكّر أخي المسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:" كلُّ الذُّنوبِ يُؤخِّرُ اللهُ منها ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلا عقوقَ الوالدين فإنه يُعجّلُ لصاحبه" رواه الحاكم، أي يعجّل له في العُقوبة، الله يعاقبُه في الدنيا قبلَ يومِ القيامة، فكلنا مأمورٌ بأن يبرَّ والدَيه فإذا أمرَ أحدُ الوالدين ولدَه بأن يفعلَ أمرًا مباحًا أو يتركَه وكان يحصلُ لهماغمٌّ إنْ خالفهما فيجبُ عليه أن يطيعَهما في ذلك، أما إن أمره أحدُ والدَيه بمعصيةٍ فلا يطيعه في ذلك، فقد قال الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم:" لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق". وبر الوالدين المسلمَين لا يكونُ فقط في حال حياتهما بل يكون أيضًا بعدَ وفاتهما، فالولدُ إنِ استغفرَ لوالدَيه المسلمَين بعدَ موتهما ينتفِعَانِ بهذا الاستغفار ويلحقُهُما ثوابٌ كبيرٌ فيعجبان، من أيِّ شىءٍ جاءهما هذا الثواب، فيقولُ الملَكُ: هذا منِ استغفارِ ولدِكما لكُما بعدَكُما.

وفي الصحيحين عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال:" سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمَلِ أحبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلّ؟ قال: الصلاةُ لوقتِها، قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قال: بِرُّ الوالدَيْن".

نسألُ الله عزَّ وجلَّ أن يجعلَنا منَ البارِّين لوالدِينا، ونسألُه عزَّ وجلّ أن يجعلنا من الذين يستمعون القولَ فيتّبعونَ أحسنَه إنه على كلِّ شىءٍ قدير.

هذا وأستغفر الله لي ولكم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أنّ سيِّدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه وخليله ، بلغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة صلى الله وسلم عليه وعلى كل رسول أرسله .

فقد جاء عنه صلوات ربي وسلامه عليه:{ كفى بالموت واعظا } .

يا ابن ءادم ، يا ابن ءادم إذا صبحت فقل يا الله ، وإذا أمسيت فقل يا الله، وإذا سألت فقل يا الله ، وإذا استعنت فقل يا الله ، وإذا نمت على فراش المرض فقل يا الله ، وإذا دخل عليك ملك الموت فقل يا الله يا الله يا الله .

فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، عباد الله اتقوا الله الذي خاطب حبيبه محمدًا في القرءان بقوله: {إنكَ ميتٌ وإنهم ميّتون} الزمر/ 30 .

بكت الأرضُ والسماءُ عليه

 

وبكـاه نديمـه جبريل

هو الحبيب الذي ترجى شفاعته

 

عند الصراط إذا ما زلت القدم

هو الحبيب الذي تحدثنا عن ولادته، هو الحبيب الذي تحدثنا عن بعض صفاته، هو الحبيب الذي تحدثنا عن صبره وأخلاقه . ولا أدري اليوم إخوة الإيمان كيف أحدثكم عن وفاته، لأنه هو الحبيب محمد.

فلقد كان ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم في العشر الأخير من صفر ، وكانت بداية وجعه في بيت ميمونة ثم انتقل حين اشتد وجعه صلى الله عليه وسلم إلى بيت السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت عائشة : "ثقل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : أَصَلَّى الناس ؟ فقلت لا هم ينتظرونك يا رسول الله فقال ضعوا لي ماء في المِخْضَبِ ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينهض فأُغمي عليه ثم أفاق فقال أصلى الناس ؟ فقلنا لا هم ينتظرون يا رسول الله" قالت: والناس عكوفٌ في المسجد ينتظرون رسول الله لصلاة العشاء . فأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكرٍ يصلي بالناس ، وكان أبو بكر رجلا رقيقًا، فقال يا عمرُ صلِّ بالناس ، فقال عمرُ رضي الله عنه: أنت أحقُّ بذلك، فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام .

ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خِفّةً أي خفَّ عنه المرض فخرج بين رجلين أحدهما عمه العباس لصلاة الظهر فلما رءاه ابو بكر ذهب ليتأخر أي ليرجع عن الإمامة في الصلاة بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ إليه أن لا تتأخر وأمرهما فأجلساه إلى جنبه فجعلَ أبو بكر يصلي قائمًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدًا.

وتوفي رسول الله ، ومات رسول الله، ومات حبيب الله شهيدًا في ربيع الأول في يوم الاثنين، ففيه وُلد وفيه هاجر وفيه مات، وغُسّل صلّى الله عليه وسلّم من بئره ، بئر غَرْسٍ التي كان يشرب منها، ولم يُجرّد من قميصة حين تغسيله بل جعل عليّ رضي الله عنه على يده خرقة ليدلكه بها من تحت قميصه وهو يقول طِبتَ حيا وميّتًا يا رسول الله. وكُفّن عليه الصلاة والسلام في ثلاثة اثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ثم جاء الرجال فوجًا بعد فوج فصلّوا عليه فرادى ، فكان فوج يدخلون فيصلون فرادى ثم يخرجون ويدخل غيرهم يصلون كذلك .

ورُوي عن ابن مسعود أنه صلى عليه أولاً جبريل ثم ميكائيل فإسرافيل فملك الموت ومعه جنوده من الملائكة .

وروى أهل السِيَر عن مالك بن أنس أن عدد الصلوات التي صلِّيت عليه اثنان وتسعون صلاة .

وكان دُفن المصطفى صلى الله عليه وسلم في البقعة التي توفي فيها ، فلقد جاء عن الصدّيق رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما قُبضَ نبيٌّ إلا دُفِنَ حيثُ يُقبَض" . فرُفع فراشُهُ وحُفر له تحته .

وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها رأت في المنام أن ثلاثة أقمار سقطت في حجرتها أي بيتها فقَصّتها على أبيها الصدِّيق فقال : "إن صَدَقَتْ رؤياكِ يُدفن في بيتِك ثلاثةٌ هم خيرُ أهلِ الأرض " ، فلما دُفن المصطفى قال لها: "هذا خيرُ أقمارِك الثلاثة الذين نزلوا حُجْرَتك" فدخل الدار ثم دُفن فيها أبو بكر وعمر معه صلى الله عليه وسلم وعلى ءاله وصاحبيه .

يقول الله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ }ءال عمران/144 .

إخوة الإيمان ، لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب فقال: "إن رجالاً يزعُمون أنّ رسولَ الله قد توفِي وإنّ رسول الله ما مات"، وهو إنما قال ذلك بظنّه أنهم يموتون قبلَ رسول الله .

وهنا اسمعوا معي جيدًا ، أقبل أبو بكرٍ الصديق ، أقبلَ خليفةُ رسول الله ، صاحبُ رسولِ الله ، رفيقُ رسولِ الله في الغار، أقبل حتى نزل على بابِ المسجدِ حين بلغه الخبرُ وعمرُ يُكلّم الناس فلم يلتفت إلى شىء حتى دخل على رسول الله ، حتى دخل على صاحِبِه وحبيبِه ورفيقِه رسولِ الله ، ورسولُ الله مسجّى في ناحية البيت عليه بُردٌ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسولِ الله فقبّله قبلةَ الوداع بين عَينيه وقال: "بأبي أنتَ وأمّي يا رسولَ الله طِبتَ حيًا وميِّتًا". وأيُّ موقفٍ هذا موقفُ أبي بكرٍ رضي الله عنه يُقْبِلُ ولا يلتفت إلى شىء ولا يكلّم أحدًا ويكشف عن وجه رسول الله ويقبّله . ثم ردّ البُرْدَ على وجه رسولِ الله ثم خرجَ وعمرُ يُكلّم الناس ، فقال "على رِسْلِكَ يا عُمَرُ،  أنصِتْ" ، فأبى إلا أن يتكلّم فلما رءاه أبو بكرٍ لا يُنصتُ أقبلَ على الناسِ ومعَ شدّةِ حبّه لرسول الله ومعَ رقّتِه التي عُرفَتْ عنه معَ ذلك وقفَ وِقفةً تاريخيةً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيّها الناس إنه من كان يعبدُ محمّدًا فإنّ محمّدًا قد مات، ومَن كان يعبدُ الله فإنّ اللهَ حيٌّ لا يموت" ثم تلا هذه الآية: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ } ءال عمران/144 .

فعند ذلك عَرَفَ سيّدُنا عمرُ رضي الله عنه أنّ رسولَ الله قد ماتَ .

محمّدٌ تحن إليه القلوب ، محمّد تقرّ به العيون ، محمّد تأنسُ به القلوب ، محمّد إن سكتَ علاهُ الوَقار، محمّدٌ إن نطقَ أخذَ بالقلوبِ والبصائرَ والأبصار . فالحمدُ لله الذي رزقنا حبَّ محمّد ، فقد قال سيّدُنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم: "ثلاثٌ من كُنّ فيه وجدَ حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مِمّا سواهما وأن يحبَ المرءَ لا يحبّه إلا لله تعالى وأن يكرَه أن يعودَ في الكفرِ كما يَكره أن يُقذف في النار" .

هذا وأستغفر الله لي ولكم

إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا ضدَ ولا ندَّ له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقائدنا وقرّة أعيننا محمدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه،  بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا من أنبيائه, صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله.

 [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ  * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ] {الحج:2}  

أما بعد

فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأتقياءَ السبعةَ في حديثِه المشهورِ الذي رواه البخاريُّ وغيرُه: "سَبْعةٌ يُظلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّه، إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشأ في عبادةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ورجلٌ قلبُه مُعلّقٌ بالمساجدِ، ورجُلانِ تحابَّا في اللهِ اجتمَعَا عليه وتفرَّقَا عليه، ورجُلٌ دعتْهُ امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجمالٍ فقال إني أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدقَ بصدقةٍ فأخفاهَا حتى لا تعلمَ شمالُه ما تنفقُ يمينُه، ورجلٌ ذكرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عَيناه" .

أولئك السبعةُ وأُناسٌ ءاخرونَ يُظِلُّهمُ اللهُ يومَ القيامةِ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه أي ظلُّ العَرْشِ فهم سالمونَ من حرِّ أذى الشَّمس ، فَمِن هؤلاءِ إمامٌ عادِلٌ كأبي بكرٍ الصديق وعمرَ وعثمانَ وعليٍ وعمرَ بنِ عبدِ العزيز الذي هو مِن سُلالةِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنهم، وكان عمرُ بنُ الخطابِ يقولُ عنه: "يكونُ من ولدي رجلٌ بوجهِهِ شَجّةٌ يملأ الأرضَ عدلاً كما مُلئت جَوْرًا" . فتحقق فيه قولُ جدِّه فكان بوجهه شَجّة، ضربته دابة في وجهه وهو غلام فجعل أبوه يمسح الدمَ ويقول: "إن كنتَ أشجَّ بني أمية إنك لسعيد" . فهو الذي أزال ما كانت بنو أمية تفعله من مسبة الإمام عليٍّ على المنابر وذكرِه بالسوء، ولما استلم الخلافة كتب إلى عُمَّاله: "إذا دعتْكُم قُدرَتُكم على الناس إلى ظُلمِهم فاذكروا قدرةَ اللهِ عليكُم" .

 

وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وشابٌّ نشأ في عبادة الله" من صغره نشأ، تربى على عبادة الله، تعلم شرعَ الله، طبقَ شرع الله، اشتغل بالطاعات واجتنب المحرمات.

"ورجلٌ قلبُه معلقٌ بالمساجد" علقَ قلبه بأفضلِ بقاع الأرض مخلصا لله ربِّ العالمين مُغتنما أوقاتَه وأنفاسَه. فقد قال عليه الصلاة والسلام: "بَشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنور التامِّ يومَ القيامة" .

وقد قال رسولُ الله: "ورجُلان تحابَّا في الله اجتمعَا عليه وتفرَّقا عليه". فالتحابُّ في الله سببٌ في كونِ المؤمنِ في ظلِّ العرشِ يومَ القيامة وهو مِنَ الأمورِ التي تُوصلُ إلى محبةِ اللهِ وقد قال عليه الصلاة والسلام: "تصافَوُا الحُبَّ في الله". فهذا يأمرُ هذا بالخيرِ وهذا يأمرُه بخير، يصدُقُهُ، ولا يغشُّه ولا يُداهنُه ولا يخدعُه، ينهاه عن الشر، يتعاونان على الطاعاتِ، وإبداء النصيحة.

والرسول قال: "ورجُلٌ دعتْه امرأةٌ ذاتُ منصِبٍ وجمالٍ فقال إني أخافُ الله" .

فقد وردَ أنَّ رجُلا منَ الصالحين سمِعَ بشخصٍ في بلدةٍ، مجابِ الدعاء، فذهبَ إليه واستضافَه ثلاثَ ليالٍ فلمْ يجِدْ فيه شيئًا زيادةً، فقال له بعدَ الأيامِ الثلاث: "أسألُكَ: ما سرُّ إجابةِ دعوَتِك" فقال له: "تلك دعوةُ نفسٍ عضَّها الجوع، وصَدَقَتْ لله في السجودِ والرُّكُوعِ، فأعطَاها مُنَاها وأجابَ دُعَاها" قال: "وكيفَ ذلك" قالَ له: "أصابَ الناسُ قحطٌ، فبينما أنا ذاتَ ليلةٍ، فإذا بامرأةٍ جميلةٍ تُخْجِلُ البدرَ مِن جمالها دقّتِ البابَ، وطلبتْ مني طَعامًا فقلتُ لها لا، إلا أن تُراوِدِيني عن نفسِكِ. فقالت لي: الموتُ ولا معصيةُ ربي ، وَرَجَعَتْ وهي تبكي ، ثم رجعتْ بعد أيامٍ وقد طواها الجوعُ وأشرَفَتْ على الهلاكِ وطلبت مني طعامًا، فقلتُ لها: إلا أنْ تراوديني عن نفسك، فقالت: الموتُ ولا معصيةُ ربي، الموتُ ولا معصيةُ ربي ، فعادتْ ولم تَكَدْ تحتَمِل، فقلتُ لها مثلَ ذلك فرَجَعَتْ وهي تبكي فَلَحِقْتُ بها وسمعتُها تقولُ ءاياتٍ تُناجي اللهَ تعالى، فلمّا سمعتُها تقولُ ذلك دخَل الإيمانُ قلبي وحبُ الخير، وتبتُ إلى اللهِ، فقلتُ لها اِرجعي وخُذِي ما تشائينَ لوجهِ الله، فَرَجَعَتْ وفَعَلَتْ ثم رفعتْ يدَيْها إلى السماءِ وقالت: "اللهمَّ كما هديتَ قلبَهُ، وأَنَرْتَ لُبَّهُ فأَجِبْ دعاءَهُ ،ولا تَرُدَّهُ اللهمَّ خائبا".

وقال الرسول: "ورجلٌ تصدقَ بصدقةٍ فأخفاها، حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنفِقُ يمينُه" لأنَّهُ بالغَ في إخفائِها. ولا يدرِي الإنسانُ إلى أينَ يذهبُ سرُّ الصدقةِ ولو كانتْ قليلة.

 

"ورجلٌ ذكرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عَيْنَاه" وقد قالَ رسولُ اللهِ: "عينانِ لا تمسُّهُمَا النارُ، عينٌ بكَتْ مِنْ خَشيةِ اللهِ، وعينٌ باتت تحرسُ في سبيلِ الله" فبذكرِ اللهِ تطمئنُّ القلوب،

   اللهمَّ اجعلنا من هؤلاءِ السبعةِ يا أرحمَ الرَّاحمين .

 

هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم

إنَّ الحمدَ لله نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ ونستهدِيهِ ونشكرُهُ ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فهوَ المهتَدِ، ومنْ يُضْلِلْ فلَنْ تجدَ لهُ وليًا مُرشِدًا .

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، ولا مثيلَ لهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لهُ ، وأشهدُ أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ، صلّى اللهُ عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَهُ .

أمّا بعدُ ، فيا أيّها المسلمونَ، اتَّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ مكتَسَبٍ، {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (سورة ءال عمران/102) .

أيّها المسلمون، لقد أنعَم الله عليكم بِنِعَمٍ سابغة وآلاء بالغة، نِعَمٍ ترفُلون في أعطافها، ومننٍ أُسدِلَتْ عليكم جلابيبُها. وإنّ أعظمَ نعمةٍ وأكبرَ مِنّة نعمةُ الإسلام والإيمان، يقول تبارك وتعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـٰمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـٰنِ إِنُ كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} (سورة الحجرات/16) .

فاحمَدوا الله كثيرًا على ما أولاكم وأعطاكم وما إليه هداكم، حيث جعلكم من خير أمّةٍ أخرِجت للناس ، وهداكم لمعالم هذا الدينِ العظيمِ الذي ليس به التِباس .

ألا وإنَّ من أظهرِ معالمِه وأعظمِ شعائره وأنفع ذخائره الصلاةَ ثانيةَ أعظم أمور الإسلام ودعائمه العظام. هي بعد الشهادتين ءاكَدُ مفروضٍ وأعظم مَعْرُوض وأجلُّ طاعةٍ وأرجى بضاعة، فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ ، يقول النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: " رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ" . أخرجه أحمد والنسائي والترمذي (وقال : حديث حسن صحيح) وغيرهم.

جعلها الله قرّةً للعيون ومفزعًا للمحزون، فكان رسول الهدى صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلّى ، ( أي إذا نابَهُ وألَمَّ به أمر شديد صلى)  أخرجه أحمد، وأبو داود .

ويقول عليه الصلاة والسلام: " وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ " أخرجه أحمد في مسنده والنسائي والبيهقي في السنن وصححه الحاكم في المستدرك وغيرهم.

وكان ينادي: " يَا بِلالُ ، أَرِحْنَا بِالصَّلاةِ "  . أخرجه أحمد وغيره .

فكانتْ سرورَهُ وهناءَةَ قلبه وسعادةَ فؤادِه . بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه.

هي أحسنُ ما قصده المرءُ في كلّ مهِمّ، وأولى ما قام به عند كلِّ خَطْبٍ مُدْلَهِمٍّ ، خضوعٌ وخشوع، وافتقار واضطرار، ودعاءٌ وثناء، وتحميد وتمجيد، وتذلُّل لله العليِّ الحميد .

أيها المسلمون، الصلاةُ هي أكبرُ وسائل حِفظِ الأمنِ والقضاءِ على الجريمةِ، وأنجعُ وسائلِ التربيةِ على العِفّةِ والفضيلةِ، {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ } (سورة العنكبوت/ 45 ) .

هي سرُّ النجاح وأصلُ الفلاح، وأَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ به يومَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ . المحافظةُ عليها عنوانُ الصِدقِ والإيمانِ، والتهاونُ بها علامةُ الخذلانِ والخُسرانِ . طريقُها معلومٌ  وسبيلُها مرسومٌ ، مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرْهَانٌ وَلا نَجَاةٌ ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ لا لأنهُ كافرٌ بل لِعُظْمِ ذنبِهِ . من حافظ على هذه الصلواتِ الخمس فأَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ ، فَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ.

نفحاتٌ ورَحَماتٌ، وهِباتٌ وبركاتٌ، بها تَُكَفَّرُ صغائرُ السيئاتِ وترفَعُ الدرجاتُ وتضاعَفُ الحسناتُ، يقول رسول الهدى صلّى الله عليهِ وسلّمَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْراً بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَىَ مِنْ دَرَنِهِ ( وسخه) شَىءٌ ؟" قَالُوا: لاَ يَبْقَىَ مِنْ دَرَنِهِ شَىءٌ. قَالَ: "فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، يَمْحُو الله بِهِنَّ الْخَطَايَا"(أي الذنوب الصغيرة)متفق عليه.

عبادةٌ تشرِقُ بالأملِ في لُجّة الظلُمات، وتُنْقِذُ المتردّي في دَربِ الضلالات، وتأخذ بيد البائِس من قَعر بؤسه واليائس من دَرَكِ يأسِه إلى طريق النجاة والحياة، {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ} (سورة هود/114) .

أيّها المسلمون، إنّ ممّا يندَى له الجبين ويجعل القلبَ مكدَّرا حزينًا ما فشا بين كثيرٍ من المسلمين من سوءِ صنيع وتفريطٍ وتضييع لهذه الصلاةِ العظيمة، فمنهم التاركُ لها بالكلّيّة، ومنهم من يصلّي بعضًا ويترك البقيّة. لقد خفّ في هذا الزمانِ ميزانها عند كثير من الناس وعظُم هُجْرانُها وقلّ أهلُها وكثُر مهمِلُها.

أيّها المسلمون، إنَّ من أكبرِ الكبائرِ وأبْيَنِ الجرائرِ تركَ الصلاة تعمُّدًا وإخراجَها عن وقتها كسَلاً وتهاوُنًا . (الجرائر : جمعَ جريرَةٍ ، والجريرُ هي الذنبُ والجِنايةُ يَجنيها الرّجلُ  وقد جَرَّ على نفسِهِ وغيرِهِ جريرَةً يجُرُّها جَرًّا أيْ جنى عليهم جِنايةً ) [لسان العرب] . يقول النبيُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ" بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ "أخرجه مسلم. أي تارك الصلاة قريب من الكفر لعظم ذنبه

أيها المسلمون، إنّ التفريطَ في أمر الصلاة من أعظم أسبابِ البلاء والشَّقاءِ، ضَنكٌ دنيويّ وعذابٌ بَرزخيٌّ وعِقابٌ أخْرَوِيّ، { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَـوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيًّا}(مريم/59).

 فيا عبد الله، كيفَ تهون عليك صلاتُك وأنت تقرأ الوعيدَ الشديدَ في قول الله عز وجل : { فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ  * ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ } .(سورة الماعون/4 - 5) .

أيّها المسلمون، الصلاةُ عبادةٌ عُظمى ، لا تسقُط عن مكلَّف بالغ عاقل بحال، ولو في حال الفزع والقتال، ولو في حال المرض والإِعْياء، ولو في حال السفر، ما عدا الحائض والنفساء، يقول تبارك وتعالى: { حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوٰتِ وٱلصَّلَوٰةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـٰنِتِينَ }(سورة البقرة/ 238 – 239) .

أقيموا الصلاةَ لوقتِها، وأَسْبِغوا لها وضوءَها، وأتمّوا لها قيامَها وخشوعَها وركوعَها وسجودَها، تنالوا ثمرتَها وبركتَها وقوّتَها وراحتَها.

هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكُم

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجدَ له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، من بعثه الله رحمة للعالمين، هاديا ومبشرا ونذيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى كل رسول أرسله، عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، [ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ].

 

عباد الله،

 

إن في تاريخِ العُظماء لخبرا، وإن في سِيَرِ العُلماء لعِبرا، وإن في أحوالِ النُّبلاء لَمُدَّكرا، وأمتنا الإسلامية، أمةُ أمجادٍ وحضارة، وتاريخٍ وأصالة، وقدِ ازدانَ سِجِلُّها الحافلِ عبر التاريخ، بكوكبةٍ منَ الأئمةِ العظام، والعلماءِ الأفذاذِ الكرام، مثَّلوا عِقْدَ جيدِها وتاجَ رأسِها، ودُرّيَّ كواكِبِها، كانوا في الفضلِ شموسا ساطعه، وفي العلمِ نجوما لامعه، فعُدُّوا بحقٍّ أنوارَ هُدًى، ومصابيحَ دُجًى، وشموعا، تضيءُ بمَنهَجِها المتلألىءِ ، وعِلمِها المُشرقِ الوضّاءِ غياهبَ الظُّلَم، وتُبَدِّّدُها بأنوارِ العلومِ والحِكم.

 

إخوة الإيمان

 

وكان مِن أجلّ هؤلاء الأئمة، ومن أفضل هؤلاء العلماء، جبلٌ أشمُّ، وبدرٌ أتَمُّ، وحَبْرٌ بحرٌ وطَودٌ شامخٌ، فريدُ عصرهِ، ونادرةُ دهرهِ، قلَّ أن يجودَ الزَّمنُ بمثلِه، إنه عالمُ العصر، وزاهِدُ الدهر، ومحدّثُ الدنيا، وعلمُ السُّنة، وباذلُ نفسِه في المِحنة، قلَّ أن ترى العيونُ مثلَهُ،  كانَ رأسا في العلم والعمل، والتمسك بالأثر، ذا عقلٍ رزين، وصدقٍ متين، وإخلاصٍ مكين، اِنتهت إليه الإمامةُ في الفقهِ والحديث، والإخلاصِ والورع، قال فيه الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه: رأيتُ ببغدادَ شابًّا، إذا قال حدّثنا قال الناسُ كلُّهم صَدَق،  وقال فيه: خرجتُ من بغداد، فما خلَّفتُ رَجُلا، أفضلَ ولا أعلمَ ولا أفقهَ ولا أتقى منه، أتدرون عبادَ الله، مَنْ تُعطرونَ أسماعكم، بذكرِ سيرته؟ إنه إمامُ أهلِ السنة، الإمامُ الفذّ، والعالمُ الجِهبِذ، الإمامُ المُفضّل، والعالمُ  المبجل ، أبو عبد الله أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حنبلٍ رضي الله عنه، من عرفتْهُ الدنيا، وذاعَ ذِكرُه، وشاعَ صيتُهُ في الآفاق، إماما عالما، فقيها محدثا، صابرا شاكرا، لا يخافُ في الله لومةَ لائم، يتحملُ المحنَ في سبيل الله، والذّبِّ عن سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ويُقارعُ الباطلَ بحِكمة نادرة، لا تُزعزِعُه الأهواء، ولا تَمِـيدُ به العواصف، حتى عُدَّ قِمّةَ عصرهِ، وما بعد عصره، وأُجمِعَ على جلالته وقدرِه.

 

إخوة الإيمان

 

ومِن أهم ما في حياةِ الإمام أبي عبد الله أحمدَ بنِ حنبلٍ،  رحمه الله، منهجُه في العقيدة،  والتزامُه نهجَ الكتاب والسنة، وما عليه سلفُ الأمة، في توحيدِ الله وتنـزيهه عن  الجسم والمكان والجهة والحركة والسكون، فقد نَقل الإمامُ  أبو الفضلِ التميميُّ الحنبلي، في كتاب اعتقاد الإمام أحمدَ، عن الإمام أحمدَ أنه قال:" واللهُ تعالى لا يلحقه تغيّرٌ ولا تبدل، ولا تلحَقُه الحدودُ  قبلَ خلقِ العرش، ولا بعدَ خلقِ العرش "، وكان يُنكرُ الإمامُ أحمدُ على من يقول إن الله في كلِ مكانٍ بذاته، لأن  الأمكنةَ كلَّها محدودة. وبيّنَ الإمامُ الحافظ ابنُ الجوزي الحنبلي، في كتابه دفعِ شُبَهِ التشبيه، براءةَ أهلِ السنة عامةً، والإمام ِأحمدَ خاصةً، من عقيدة المجسمة وقال: كان أحمدُ لا يقولُ بالجهة للبارىء تعالى. ونقلَ الإمامُ الحافظُ العراقيُّ، والإمامُ القَرافي، والشيخُ ابنُ حجرٍ الهيتمي، والإمامُ ملا علىِّ القاري، ومحمدُ زاهد الكوثري وغيرُهم، عن الأئمةِ الأربعة هُداةِ الأُمة، الشافعيِ ومالكٍ وأحمدَ وأبي حنيفة، رضي الله عنهم، القولَ بتكفير القائلين بالجهة والتجسيم، بل نقلَ صاحبُ الخصالِ من الحنابلةِ، عن أحمدَ أنه قال بتكفيرِ مَن قال: اللهُ جسمٌ لا كالأجسام، وعبارتُه المشهورةُ التي رواها عنه أبو الفضل التميميُّ الحنبلي : مهما تصورتَ ببالك فاللهُ بخلاف ذلك،وهذا دليلٌ على نصاعةِ عقيدتِهِ،  وأنه كان على عقيدة التنزيه.

 

كذلك أوَّل الإمام أحمدُ بن حنبل، الآياتِ المتشابهاتِ في الصفات ، فقد روى الحافظُ البيهقيُّ عن الحاكم، عن أبي عَمْرِو بنِ السّمّاك عن حنبلٍ، أن أحمدَ بنَ حنبل، تأول قولَ الله تعالى [وَجَاءَ رَبُّكَ] ، أنه جاء ثوابُه، ثم قال البيهقيّ، وهذا إسنادٌ لا غبار عليه، ونقل ذلك ابنُ كثيرٍ في تاريخِه ، وفي روايةٍ نقلها البيهقيُّ، في كتابِ مناقبِ أحمد، أن الإمامَ قال: جاءت قدرتُه، أي أثرٌ من ءاثارِ قدرته، ثم قال الحافظُ البيهقي: وفيه دليلٌ أنه كانَ لا يعتقدُ في المجيءِ الذي ورد به الكتابُ، والنزولِ الذي وردت به السنة، انتقالا من مكانٍ إلى مكان، كمجيءِ ذواتِ الأجسام، ونزولها، وإنما هو عبارةٌ  عن ظهور ءاياتِ قدرته . كذلك كان يتبركُ بآثارِ النبيّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فقد قال الذهبيُّ في سِيَرِ أعلام النُّبلاء، قال عبدُ الله بنُ أحمد : رأيتُ أبي يأخُذُ شعَرةً من شعَرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيضَعُها على فيهِ يقبِّلُها ، وأحسِبُ أني رأيتُه يضعُها على عَينِهِ ، ويغمسُها في الماء، ويشربُه يَستشفي بهِ ، ورأيتُه أخذَ قصعةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أيِ الإناءَ الخشبيَّ الذي كان يأكُلُ به النبي فغسلَها في جُبِّ الماءِ أي البئر ، ثم شرب فيها ، ورأيتُه يشربُ من ماء زمزمَ يَستشفي به ، ويمسحُ به يديه ووجهَهُ، قال الذهبيّ: أينَ المُتَنَطِّعُ المُنكرُ على أحمد، وقد ثبت أن عبدَ الله سأل أباه عمّن، يلمَسُ رُمّانةَ مِنبرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي جزءٌ مُستديرٌ من المنبر، كان يضَعُ النبيُّ يدَهُ عليها، ويمَسُّ الحجرةَ النبَويّةَ فقال:لا أرى بذلك بأسا. انتهى بحروفه.

 

ونقلَ البُهوتي والمِرداويُّ الحنبليان، وغيرُهما، أنّ الإمامَ أحمد قال في مَنْسَكِه الذي كتبه، للمَرْوَرُّوذِيّ  : يُسنُّ للمُستَسقِي، أن يتوسلَ بالنبيّ في دعائه.

 

قال إبراهيمُ الحربي أدركتُ ثلاثةً لم يُرَ مثلَهُم أبدا يَعجَزُ النساءُ أن يلِدْنَ مثلَهُم، رأيتُ أبا عُبيد القاسمِ بنَ سلامٍ ما أُمثّلُه إلا بجَبَلٍ نُفخ فيه روح، ورأيت بشرَ بنَ الحارثِ ما شَبّهتُه إلا برجلٍ عُجن من قَرنه إلى قدمه عقلا، ورأيتُ أحمدَ بنَ حنبل كأنّ اللهَ جمع له علمَ الأولين من كلِ صنفٍ، يقول ما شاء ويُمسك ما شاء.

 

 

 

وكان الشافعي يأتيه إلى منزله فعوتب في ذلك فأنشد قائلا:

 

قالوا يزورك أحمدٌ وتزورُه

 

قلتُ الفضائل لا تفارق منزله

إن زارني فبفضله، أو زرته

 

فلفضله، فالفضلُ في الحالين له.

 

 

 

ومما جاء في ورعه- رحمه الله- أنه رهن سطلاً عند قاضٍ في مكة، فأخذ منه شيئاً يتقوّتُه، فجاء فأعطاه فِكاكه فأخرجَ إليه سطلين، وقال: انظُر أيهما سطلُك فخُذه، قال: لا أدري، أنت في حِلٌّ منه ومما أعطيتُك في حلٍ ولم يأخذْه. قال القاضي: والله إنه لسطلُه وإنما أردتُ أن أمتحنه فيه.

 

مرض أحمد بن حنبل بالحُمى ليلة الأربعاء من شهر ربيع الأول سنة 241 ودام مرضه 9 أيام وتوفى يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر، وهو ابنُ سبع وسبعين سنة، ويروى أنه حضر جنازته ثمانُمائةِ ألفِ رجل وستين ألف امرأةٍ وأسلم يومَ موته عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس.

 

أسألُ الله العليَّ العظيمَّ الكريمَّ من فضله، أن يُعظِمَ أجرَهُ، ويُكثِرَ مِثلَهُ، وينفعَنا بعِلمِهِ، ويحشُرَنا في زُمرتهِ، معَ النبييين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسُنَ أولئكَ رفيقا.

 

أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا].صدق الله العظيم

 

هذا وأستغفر الله  لي ولكم.

 

 

 

جديد الموقع New

Go to top